مرفأ بيروت بين الفساد والحلول: هل تُعيد السكانر الثقة؟

سيلينا بريدي

أَصْبَحَ مرفأ بيروت الَّذِي كَانَ يومًا مَا شريان الحياة الاقتصادية للبنان، رمزًا للفساد وغياب الشفافية وسوء الإدارة، خصوصًا بعد الانفجار الكارثي الَّذِي هزّه فِي 4 آب 2020. لَمْ تقتصر نتائج الانفجار عَلَى الضحايا اللَّذِينَ سقطوا، بَلْ تعدته لتظهر مَدَى الفوضى وتقاذف المسؤوليات بَيْنَ الفاعلين فِيهِ، ولعلّ هَذَا الوضع هُوَ نتيجة حتمية ومتوقّعة لعقود من التراكمات والممارسات الفاسدة وضعف الرقابة والمحاسبة.

وَفِي الوقت الَّذِي احتل فِيهِ مرفأ حمد فِي قطر المرتبة 11 عالميًا كأكثر الموانئ كفاءة بَيْنَ 405 ميناء، وميناء سعيد فِي الإمارات المرتبة 16، وفقًا لمؤشر البنك الدَّوْلِي للعام 2023، يحتلّ مرفأ بيروت المرتبة 73.

ليس مرفأ بيروت هيكلًا متجانسًا يقدم خدمة للتجار، فهو فِي المقام الأول مكان يتفاعل فِيهِ العديد من أصحاب المصلحة من القطاعين العام والخاص ويلعبون دورًا فِي تَقْدِيم الخدمات الأساسية للاقتصاد كبوابة لبقية العالم، بِحَسَبِ تقرير للبنك الدَّوْلِي. والادارة الحالية فِي مرفأ بيروت، مثل غالبية قطاعات الدولة، لَا تؤدي إِلَى تحقيق الكفاءة، لِأَنَّ العديد من المؤسسات الحكومية الرئيسية المعنية بالنقل والتجارة وإدارة الحدود لديها صلاحيات متداخلة واستراتيجيات متباينة.

وإحدى قصص الفساد الأساسية فِي المرفأ وَالَّتِي يناقشها تقريرنا هِيَ قضية التهرب الجمركي، الَّذِي يُكبّد خزينة الدولة مليارات الدولارات، مَا يؤثر سلبًا عَلَى المالية العامة. ويكمن التحدي الكبير فِي تَطْبِيق إجراءات فعّالة للتصدي للتهرب الجمركي وضمان تحسين الكفاءة الاقتصادية فِي لبنان.

تداعيات التهرب الجمركي: محليًا ودوليًا

يُمثل مرفأ بيروت أهمية اقتصادية كبيرة من حَيْتُ الواردات. فقبل انفجار المرفأ، كَانَ حوالي 70% من الاستيراد، أَوْ مَا يعادل 16 إِلَى 17 مليار دولار، يمرّ عبره. وَبعْدَ الكارثة، انخفضت النسبة لكنها بقيت مرتفعة، حسبما يؤكد الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة.

يمكن القول أن ظاهرة التهرب الجمركي فِي مرفأ بيروت لَا تكبد خزينة الدولة خسارة بِقِيمَة 1.5 مليار دولار سنويًا فحسب، بَلْ تتسبب أيضًا فِي تداعيات سلبية عَلَى الاقتصاد المحلي والدولي.

ويؤدي التهرب الجمركي إِلَى تدمير اللعبة الاقتصادية عبر منح المهربين ميزة غير عادلة، حَيْتُ يبيعون السلع بأثمنة أرخص مقارنة بالتجار اللَّذِينَ يدفعون الجمارك.

هَذَا يؤدي إِلَى تركيز الثروات فِي أيدي فئة قليلة عَلَى حساب الشعب العام، كَمَا يوضح عجاقة، مِمَّا يعزز الاقتصاد غير الرسمي عَلَى حساب الاقتصاد الرسمي.

وَعَلَى الصعيد الدَّوْلِي، تضر ظاهرة التهرب الجمركي بسمعة لبنان، حَيْتُ تتجنب الشركات العالمية التَعَامُل مَعَ لبنان بِسَبَبِ عدم احترامه للقوانين الدولية، مِمَّا يؤدي إِلَى انسحاب المستثمرين وتفاقم الأزمة الاقتصادية.

التصدي للتهرب الجمركي

من أواخر المحاولات للتصدي للتهرب الجمركي، مَا أعلنه وَزِير الأشغال العامة والنقل فِي حكومة تصريف الأعمال، علي حمية، فِي مقابلة تلفزيونية فِي أواخر حزيران 2024، عَنْ زيادة عدد آلات “السكانر” دَاخِل مرفأ بيروت إما مِنْ خِلَالِ الشراكة مَعَ القطاع الخاص أَوْ بِتَوْفِيرِ الحكومة للأموال اللازمة. وينتظر وَزِير الأشغال تقرير للجمارك متعلق بوضع آلات “السكانر” عَلَى المعابر الشرعية، قبل الإدلاء بأي تصريح بِشَأْنِ اقتراحه أَوْ المضي قدما فِيهِ وتحديد آلية الشراء.

فِي السياق، يشرح المدير العام لإدارة المناقصات فِي التفتيش المركزي جان العلية أن الآليتين اللتين اقترحهما وَزِير الأشغال تراعيان مبدأي الشراكة والمنافسة، وَلَكِن تختلف فيهما الجهة المخوّلة للإشراف عَلَى المناقصة. فالآلية الأُوْلَى تدخل ضمن نطاق الشراكة مَعَ القطاع الخاص وإجراء مناقصة من دون الذهاب إِلَى قانون الشراء العام، أَمَّا فِي حال رصدت الدولة الأموال مِنْ خِلَالِ فتح اعتمادات فِي الموازنة، فتخضع مسألة الشراء لقانون الشراء العام. وَيُشِيرُ العلية إِلَى أَنَّهُ إِذَا تقرر اعتماد الآلية الأُوْلَى، فالإطار العملي هُوَ الأهم إِذْ لَا يوجد مجلس أعلى للخصخصة للإشراف عَلَى المناقصة وعملية إطلاق شراكة بَيْنَ القطاعين العام والخاص طويلة ويمكن أن تستغرق أكثر من سنة، أَمَّا إِذَا تقرر اعتماد الآلية الثَّـانِيَة، فتتولى إدارة المناقصات عملية الإشراف إِلَى حِينِ تشكيل لجنة الشراء العام.

أَمَّا الخبيرة فِي قانون الشراء العام رنى رزقالله، فاستغربت من إمكانية اعتماد آلية الشراكة مَعَ القطاع الخاص لشراء آلات سكانر لمرفأ بيروت، موضحة أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الجهة الخَاصَّة “الشارية” أن يكون لديها مصلحة فِي الأمر.

وسألت :” مَا هِيَ مصلحة الشركات الخَاصَّة فِي الاستثمار فِي عَدَدُُ مِنَ آلات السكانير فِي مرفأ بيروت”؟

ولفتت رزقالله فِي السياق، إِلَى أَنَّ مشاريع الشراكة مَعَ القطاع الخاص تُقَامَ عَلَى مُسْتَوَى مشاريع إنشائية يستفيد مِنْهَا القطاعين العام والخاص.
زيادة عدد “السكانر” … الحل؟

هُنَاكَ اليوم فِي مرفأ بيروت ثلاث آلات سكانر، واحدة مقدمة كهبة فرنسية واثنتان صغيرتان كهبة إيطالية، ولكنها خارجة عَنْ الخدمة لِأَكْثَرِ من عام لعدم تجديد عقد صيانتها. وَقَد علمنا أن وِزَارَة الأشغال ستخصص جزءًا من إيرادات اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت، مِنْ أَجْلِ إعادة تشغيل آلة السكانر الفرنسية عبر صيانتها، إجراء يخضع أيضًا لقانون الشراء العام.

ويفيد مصدر فِي الجمارك بِأَنَّ آلتين “سكانر” كافيتان للقيام بالعمل المطلوب فِي مرفأ بيروت، بشرط وضع “نظام إدارة مخاطر” متطور، يحدد بموجبه البضائع الواجب تفتيشها بعيدًا عَنْ العشوائيات، كَمَا يفعل المجلس الأَعْلَى للجمارك، بِحَسَبِ المصدر، معتبراً أن بِهَذِهِ الطريقة سيتقلص عدد الشحنات الخاضعة للتفتيش مَعَ ضمان منع التهرب الجمركي.
واليوم، وَعَلَى الرغم من وضع بعض الانظمة للحد من التهرب الجمركي فِي مرفأ بيروت، كنظام نجم، إلَّا أن الظاهر أن بعض “المتلاعبين” بِهَذَا النظام، فَوْقَ القانون وَعَلَى عينك يا تاجر.
فنظام “نجم”، هُوَ عبارة عَنْ خطين، أحمر وأخضر. عبر الخط الأحمر، لَا تخضع البضائع للتفتيش، وخط أخضر تخضع عبره البضائع للتفتيش، ويحدد المجلس الأَعْلَى للجمارك البضائع الَّتِي يَجِبُ أن تمر عبر الخط الأحمر أَوْ الأخضر. هُنَا يتم التلاعب بِهَذِهِ المعايير من قبل عناصر الجمارك الَّتِي ترسل بضائع كَانَ من المفترض أن تمر عبر الخط الأخضر، عبر الخط الأحمر فَلَا تخضع للتفتيش وَالبِتَّالِي يتم التهرب الجمركي.

وَلَكِن “نظام نجم” ليس وحيدا، بَلْ تتنوع الأساليب المستخدمة فِي التهرب الجمركي وَتَشْمَلُ تَقْدِيم المستوردين فواتير بسلع أرخص لدفع جمارك أقل بالتواطؤ مَعَ الجهة المصدرة، أَوْ إدخال البضائع تحت تَعْرِيف سلع لَا تخضع لتعرفة جمركية مِمَّا يسمح بمرورها دون تفتيش ودون دفع أي رسوم جمركية، وَذَلِكَ بالتواطؤ مَعَ موظفي الجمارك.

بالإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ، هُنَاكَ سلع مثل الألبسة أَوْ مواد البناء تدخل تحت اسم جمعيات إنسانية تستفيد من إعفاءات جمركية من قبل مجلس الوزراء، بِحَسَبِ مَا يشرح الباحث فِي الدولية للمعلومات محمد شمس الدين.

تحديات وحلول

يشرح الصحافي الاستقصائي رياض قبيسي أن معظم دول العالم تعتمد نظاماً مشابهاً لنظام “نجم”، وَلَكِن كَمَا هُوَ الحال مَعَ العديد من الأمور فِي لبنان، فَإِنَّ آلية وضع المعايير الَّتِي تحدد البضائع الواجب تفتيشها أَوْ عدمها تعتمد عَلَى الارتجال،مِمَّا يتيح المجال للجهات المعنية للتلاعب فِي البيانات والمعايير الموضوعة.

هُنَاكَ آلية أُخْرَى تعتمدها الدول للحد من التهرب الجمركي، وَهِيَ إثبات الدفع الإِِلِكْترُونِي بدلاً من الورقي، ويتم ذَلِكَ عبر اعتمادات مصرفية تثبت أن الجهة المستوردة أَوْ المصدرة للبضائع ليست وهمية. أَمَّا فِي لبنان، فيعتمد غالبية التجار عَلَى الدفع النقدي، مِمَّا يزيد من احتمالية ادخال شحنات بضائع تحت أسماء شركات وهمية.

يمكن تَطْبِيق عدة إصلاحات فِي لبنان اليوم لمكافحة ظاهرة التهرب الجمركي، بدءًا من التعيينات وتحديث القوانين، كَمَا يشرحان الصحافي رياض قبيسي والناشط الحقوقي علي عباس.

أولاً، ينبغي تفعيل إدارة التدقيق مِنْ خِلَالِ ملء الشواغر، حَيْتُ إن هَذِهِ التعيينات لَا تتطلب موافقة مجلس الوزراء. كَمَا يَجِبُ البت فِي مرسوم تعيين المراقبين الجمركيين، الَّذِي صدر قبل أكثر من ثلاث سنوات. تَشْمَلُ مهام هَؤُلَاءِ المراقبين التمييز بَيْنَ السلع الَّتِي تمر عبر “السكانر”، التحقق من جهة التصدير، التدقيق فِي البيانات الجمركية، وتنفيذ دوريات تفتيش عَلَى المحال التجارية المشبوهة.

أَمَّا من ناحية القوانين، فَهِيَّ مليئة بالثغرات، إِذْ لَا تحدد بوضوح الفروقات بَيْنَ مرافئ الفئة الأُوْلَى والفئة الثَّـانِيَة وصلاحيات كل فئة. وَمِنْ الجدير بالذكر أن مرافئ الفئة الأُوْلَى تضم عددًا أكبر من المُوَظَّفِينَ والمراقبين مقارنة بمرافئ الفئة الثَّـانِيَة، مَا يجعل التمييز بينها ضرورة ملحة.

إضافة إِلَى ذَلِكَ، هُنَاكَ غياب آلية واضحة للبت فِي الغرامات عَلَى التهرب الجمركي وعدم تعديل قيمتها بِمَا يتناسب مَعَ سعر الصرف فِي السوق، مِمَّا يعزز انتشار الرشاوى فِي مرفأ بيروت.

ثانياً، هُنَاكَ حاجة ماسة إِلَى الحوكمة واعتماد آليات إلكترونية لربط أنظمة الجهات المعنية بمراقبة التهرب الجمركي مَعَ الإدارات العامة، لمنع الغش وتزوير الأوراق الرسمية. مِنْ بَيْنِ الإصلاحات المقترحة عَلَى صعيد الكادر البشري، تركيب كاميرات مراقبة فِي مراكز التفتيش لمتابعة سير العمل، إِلَى جانب منع استخدام الهاتف الجوال خِلَالَ ساعات العمل، واستبدال المُوَظَّفِينَ كل 3 إِلَى 4 سنوات لمنع استغلال النفوذ فِي المواقع الحساسة.

مرفأ بيروت بَيْنَ الفساد والحلول: هل تُعيد السكانر الثقة؟pic.twitter.com/9MYwvjLzPE

— صوت كل لبنان vdlnews 93.3 (@sawtkellebnen)September 5, 2024

وَفِي هَذَا السياق، يرى البروفيسور جاسم عجاقة أن الإشكالية تكمن فِي النظام والأفراد، وَأَن المسألة تتجاوز عدد “السكانر”، فِي ظل وجود طرق أُخْرَى للتهرب الجمركي وغياب قرار سياسي جدي، الَّذِي يعتبر السبيل الوحيد للخلاص.

فِي الختام، يتضح أن قضية مرفأ بيروت لَا تقتصر عَلَى نقص المعدات أَوْ ضعف الكفاءة التشغيلية فحسب، بَلْ هِيَ أيضًا مرآة لعمق المشكلة الهيكلية والفساد المستشري فِي المؤسسات اللبنانية. وَبَيْنَمَا تمثل زيادة عدد آلات “السكانر” خطوة إيجابية نَحْوَ مكافحة التهرب الجمركي، فَإِنَّ النجاح فِي معالجة هَذِهِ القضية يتطلب أكثر من مجرد تجهيزات تقنية، إِذْ يَجِبُ أن تكون هُنَاكَ إرادة سياسية قوية وإصلاحات جذرية تَشْمَلُ تحديث القوانين، تعزيز الشفافية، وتطبيق آليات رقابية صارمة.

|
لمتابعة أهَمُ وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا عَلَى واتساب (channel whatsapp)

اضغط هُنَا

عَنْ الموقع

ان www.zoom32.com مِنَصَّة مُسْتَقِلَّة شاملة وحديثة تواكب كل مواضيع المالية والاقتصادية وَكَذَا اعلانات الوظائف,وَتَضَمَّنَ كذلك مجموعة من الخدمات والوسائل التعليمية الادارية الَّتِي تبسط وتشرح الأشياء الَّتِي يحتاجها الباحث عَنْ فرص الاستثمار سَوَاء كَانَت فِي ارض الواقع او عبر الانترنت ، وَتَجْدُرُ الاشارة إِلَى ان هَذِهِ المنصة لَا تمت باي صلة لِاي مؤسسة مالية.
يستفيد سنويا من منصتنا أكثر من 25 مليون زائر وزائرة من جميع الفئات العمرية .
تمَّ الحرص فِي zoom32.com عَلَى 4 توابت اساسية :
ـ جودة المضامين المنشورة وصحتها فِي الموقع
ـ سلاسة تصفح الموقع والتنظيم الجيد مِنْ أَجْلِ الحصول عَلَى المعلومة دون عناء البحث
ـ التحديث المستمر للمضامين المنشورة ومواكبة جديد التطورات الَّتِي تطرأ عَلَى المنظومة التربوية
ـ اضافة ميزات وخدمات تعليمية متجددة
لمدة 3 سنوات قدمنا اكثر من 50000 مقالة وازيد من 200 ألف مِلَفّ مِنْ أَجْلِ تطوير دائم لمنصتنا يتناسب وتطلعاتكم, والقادم أجمل إن شاء الله.
⇐ المنصة من برمجة وتطوير zoom32.com وصيانة DesertiGO
⇐ يمكنك متابعتنا عَلَى وسائل التواصل الاجتماعي ليصلك جديدنا: اضغط هُنَا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *