مخاطر عدّة قد تؤدي إلى وضع لبنان على اللائحة الرمادية
الاقتصاد النقدي المنتشر والمتزايد بالدولار يشكّل عائقاً رئيسياً أَمَامَ التعافي الاقتصادي. إِذْ لَا يهدّد بالمساس بفعالية السياسة المالية والنقدية فحسب، بَلْ يزيد أيضًاً من مخاطر غسل الأموال، ويزيد من النشاط الاقتصادي غير الشرعي، ويحفّز عَلَى المزيد من التهرّب الضريبي
كتبت باولا عطية لـ”هُنَا لبنان”:
أَصْبَحَ الاقتصاد غير الشرعي، مرضاً خبيثاً يتوغّل فِي الاقتصاد اللبناني، ويشلّ حركته، فيدمّر عمل مؤسساته، ويقضي عَلَى أي محاولة إصلاح ماليّة أَوْ نقديّة. فمنذ اندلاع الأزمة الاقتصادية فِي العام 2019، شرّعت معابر التهريب أبوابها، بَيْنَمَا وجد البعض فِي أزمة تقلب سعر الصرف، فرصة عَلَى طبق من فضّة للتهرّب الضريبي، وعدم التصريح عَنْ الأرباح وحجم المداخيل. وإلى ذَلِكَ، كَانَ قَد سجّل التهرب الضريبي، عَلَى أنواعه 4,5 مليارات دولار، فِي العام 2018 (قبل عام واحد من الانهيار)، بِحَسَبِ تقارير مصرفية، وَهُوَ مبلغ كَانَ يمكن أن يوفّر تغطية طبّية شاملة للبنانيين المقيمين، وَلَا شَکَّّ بِأَنَّّ هَذَا الرقم قَد تضاعف مَعَ تفاقم الأزمة الاقتصادية. أمّا حجم التبادلات النّقدية فتخطى نسبة الـ 50 فِي المئة وَذَلِكَ نتيجة لانعدام الثّقة بالنظام المالي اللبناني ككل. وَهُوَ مَا أثر سلباً عَلَى سمعة لبنان فِي الخارج.
وَإِعْتَبَرَ البنك الدَّوْلِي فِي تقرير المرصد الاقتصادي للبنان، الصادر فِي العام 2022، أنّ “الاقتصاد النقدي المنتشر والمتزايد بالدولار يشكّل عائقاً رئيسياً أَمَامَ التعافي الاقتصادي. فالاقتصاد النقدي لَا يهدّد بالمساس بفعالية السياسة المالية والنقدية فحسب، بَلْ يزيد أيضًاً من مخاطر غسل الأموال، ويزيد من النشاط الاقتصادي غير الشرعي، ويحفّز عَلَى المزيد من التهرّب الضريبي”.
وَكَانَ قَد قَدّر تقرير البنك الدَّوْلِي الاقتصاد النقدي المدولر فِي لبنان، بنحو 9.86 مليارات دولار أَوْ 45.7% من إجمالي الناتج المحلي.
الأرقام الرسمية لَا تتطابق والواقع
وَفِي هَذَا الإطار، عرّف الخبير الاقتصادي، د. خلدون عبد الصمد، الاقتصاد غير الشرعي بِأَنَّّه “اقتصاد ظلّ، وَهُوَ كلّ اقتصاد لَا يمرّ عبر الدولة أَوْ المراجع الرسمية، وَالبِتَّالِي، أيّ أموال أَوْ مؤشرات، أَوْ تجارة لَا تدخل ضمن القنوات الرسمية، تعتبر اقتصاداً غير شرعي. وبالعودة إِلَى المؤشرات الاقتصادية الرسمية فِي علم الأرقام والاقتصاد، نرى أَنَّهَا جميعها تشير إِلَى عجز، وانهيار، وَعَلَى الرغم من ذَلِكَ تمكّن لبنان من الصمود اقتصاديًّا ومالياً لغاية اليوم، رَغْمَ أَنَّّ كافة المؤشرات تدلّ عَلَى أنّ البلد مفلس ومنهار اقتصادياً، من مؤشرات بطالة، وتضخّم، وعجز فِي الموازنة، إلخ. مَا يؤكّد وجود اقتصاد ظلّ، ومخادعة للأرقام الرسمية”.
وتابع عبد الصمد “ لَا أرقام دقيقة، بإمكانها احتساب حجم اقتصاد الظلّ، إلَّا أنّه وبمقارنة بسيطة بَيْنَ العجز، والبطالة ونسب الفقر والتضخم والناتج الإجمالي المحلي، يتبيّن أنّه وقبل الأزمة كَانَ حجم الخطأ فِي الأرقام 20% أمّا بعد الازمة فتخطى الـ 50%، فالأرقام الصادرة عَنْ الدولة لَا تتطابق وأرض الواقع. فنحن اليوم مَا دون العجز، ودخلنا فِي مرحلة الكساد الاقتصادي، بَيْنَمَا الشعب اللبناني متأقلم”.
والحلول بسيطة برأي عبد الصمد، وتبدأ “بضبط الحدود، وتوقيف التهريب، وحوكمة العمل الحكومي وعمل الأجهزة الرقابية، عبر الانتقال إِلَى آليات رقابة متطوّرة، تعمل بتقنيات تكنولوجية عالية، وإلّا إنّ الوضع الاقتصادي ذاهب إِلَى المزيد من التدهور، حَيْتُ أنّ الأرقام الرسمية لَمْ تعد دقيقة، وَقَد تكون مضاعفة، وَلَكِن لَا قدرة عَلَى احتسابها بِسَبَبِ اقتصاد الظلّ، مَا قَد يؤثّر عَلَى ثقة الجهات المانحة بلبنان، ويقلل بالتالي المساعدات”.
التهريب والتهرّب الضريبي
مِنْ جِهَتِهِ أَشَارَ الخبير الاقتصادي، باسم البواب، فِي حديثه لموقع “هُنَا لبنان”، إِلَى أَنَّّ “حجم الاقتصاد غير الشرعي بدأ يتفاقم بعد الأزمة فِي العام 2019 وَالَّتِي حوّلت الاقتصاد اللبناني إِلَى اقتصاد يَعْتَمِدُ الكاش كوسيلة دفع رئيسية. من جهة أُخْرَى، تصاعدت وتيرة التهريب والتهرب الضريبي عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية عَلَى حد سَوَاء. فَفِي لبنان أكثر من 130 معبر غير شرعي، محميّة من سياسيين وتابعة لجهات معروفة، وتقدّر خسائر الدولة اللبنانية من الرسوم الجمركية نتيجة التهريب عبر المعابر غير الشرعية بنحو 600 مليون دولار بِحَسَبِ أرقام وِزَارَة الاقتصاد للعام 2019. أمّا التهرّب الضريبي عبر المعابر الشرعية، فيتمّ مِنْ خِلَالِ تواطؤ بعض أعضاء الأجهزة الرقابية، وقبولهم رشاوى مقابل تمرير بضائع دون دفعها الضريبة الجمركية، وهذه الظاهرة ليست وليدة الأزمة، إلّا أَنَّهَا تفاقمت بعد الأزمة نتيجة تدني رواتب موظفي القطاع العام، وتراجع قدرتهم الشرائية مقابل ارتفاع نسب التضخم والغلاء المعيشي”.
وآثار التهريب والتهرّب الضريبي، بِحَسَبِ البواب، “ لَا تنعكس فَقَطْ تراجعاً فِي إيرادات الدولة، إنّمَا تنعكس أيضًاً عَلَى التجار الشرعيين، لينافسهم بِذَلِكَ التجار غير الشرعيين، اللَّذِينَ قَد يبيعون السلع برأسمالها أحياناً، لكونهم أدخلوها دون ضريبة، بسعر أقلّ بـ 20 إِلَى 25% عَنْ سعر التاجر الشرعي. كَمَا هُنَاكَ قسم من التجار والموظفين، اللَّذِينَ لَا يصرّحون عَنْ أرباحهم وَلَا يدفعون ضرائب عَلَى دخلهم، وَلَا يوطّنون رواتب موظفيهم، وَلَا يضمنونهم، كَمَا يساهمون بإدخال العمالة غير الشرعية إِلَى لبنان، لِکَوْنِهَا أرخص، مَا سيضاعف نسب أرباحهم، وسط غياب المحاسبة، وفلتان الحدود”.
وحذّر من حجم الاقتصاد غير الشرعي الَّذِي تخطّى نسبة الـ 50% من حجم الاقتصاد الرسمي، مشيراً إِلَى أَنَّهُ “ينقسم بَيْنَ، أولاً، التجارة والبضاعة، ثانياً، العمّال، ثالثاً، الصرافين وشركات تحويل الأموال غير المرخصّة، رابعاً، المهن الحرّة، عبر ممارسة المهن بِدُونِ رخصة أَوْ دون الانتساب إِلَى النقابة. فِيمَا يجد البعض فِي الاقتصاد الكاش أفضل فرصة لتبييض الأموال، عبر قطاعات الألبسة، والطعام، والتجميل، وغيرها وَهُوَ مَا قَد يهدّد بوضع لبنان عَلَى اللائحة الرمادية فِيمَا تعمل المصارف اللبنانية جاهدة عَلَى منع ذَلِكَ”.
وعن مخاطر اتساع رقعة الاقتصاد غير الشرعي أجاب، البواب، بِأَنَّّ ذَلِكَ “سيؤدي إِلَى تصغير القطاع الشرعي وإقفال عدد کَبِير من المؤسسات الشرعية نتيجة المنافسة غير العادلة، فَضْلًاً عَنْ فقدان لبنان الثقة الدولية، وتراجع تصنيفه فِي المؤشرات العالمية، فِيمَا الحلّ يكمن ببناء دولة تطبّق القانون وتفعيل دور الأجهزة الرقابية”.
لَا أرقام دقيقة وَلَكِن
بدوره، أَكَّدَ الباحث فِي الدولية للمعلومات، محمد شمس الدين فِي حديثه لموقع “هُنَا لبنان” أنّه “ لَا وجود لأرقام دقيقة، يمكنها تحديد حجم الاقتصاد غير الشرعي فِي لبنان، أَوْ حجم التهريب أَوْ التهرّب الضريبي، فهو غير قابل للقياس، إلّا أنّ مَا يمكن إحصاؤه، هُوَ إيرادات ضريبة الـ TVA، وَالَّتِي بِحَسَبِ قانون موازنة الـ 2024، يصل حجم إيراداتها إِلَى مليار دولار، مِنْهَا 850 مليون تأتي من الجمارك، فَهَلْ يعقل أن يكون مجموع ضريبة الكهرباء والمياه والمطاعم وغيرها مليون و50 فَقَطْ؟ هَذَا مَا يؤكّد لنا وجود تهرّب ضريبي”.
للتمييز بَيْنَ الاقتصاد النقدي وغير الشرعي
فِي سياق متصل، أوضح رَئِيس “جمعية تجار بيروت”، نقولا شماس، فِي حديثه لموقع “هُنَا لبنان”، أنّه يَجِبُ التمييز بَيْنَ الاقتصاد النقدي وغير الشرعي، حَيْتُ أن هُنَاكَ جزءاً من الاقتصاد النقدي هُوَ من مصادر شرعية، إلّا أنّه تحول إِلَى الاقتصاد الكاش بِسَبَبِ غياب النشاط المصرفي، فِيمَا حجم الاقتصاد غير الشرعي، بِحَسَبِ التقديرات، هُوَ بحدود الـ4 أَوْ الـ5 مليار دولار سنوياً، إلّا أنّ الاقتصاد الشرعي موضوع دقيق وَلَا معطيات ثابتة وعلمية تسمح بإحصائه”.
وبدأ الاقتصاد غير الشرعي، يفقد زخمه، بِحَسَبِ، شماس، بعد توقّف سياسة الدعم للمواد الغذائية، والمحروقات والأدوية، حَيْتُ أنّ “سنوات العزّ” لِهَذَا الاقتصاد كَانَت فِي العام 2020 و2021 حَتَّى أوائل الـ 2022. وللأسف تحوّل لبنان خِلَالَ تِلْكَ الفترة لمنصّة إقليمية لتهريب السلع المدعومة، فِيمَا نشاط جميع المتورطين بِهَذَا النوع من الاقتصاد كَانَ فِي أوجّه”.
أمّا بعد توقّف الدعم، وَمَعَ رفع الضرائب الجمركيّة، تحوّل نشاط الاقتصاد غير الشرعي “ذهاباً من لبنان إِلَى الخارج”، إِلَى “إياباً من خارج إِلَى دَاخِل لبنان”، ليصبح ينافس بطريقة غير مشروعة الاقتصاد الشرعي.
تطوّر الاقتصاد غير الشرعي مُنْذُ الـ 1991 إِلَى الـ2024
وانطلاقاً من حديث شماس، تجدر الإشارة إِلَى أَنَّّ ورقة عمل أعدّها صندوق النقد الدَّوْلِي قَدّرت معدل حجم الاقتصاد غير الشرعي فِي لبنان بنحو 31,6 % سنوياً من الناتج المحلي فِي الفترة بَيْنَ 1991 و 2015، ليحلّ لبنان فِي المرتبة 86 عالمياً ضمن لائحة أكبر اقتصادات غير شرعية فِي العالم وَالَّتِي تضمّ 158 بلداً. وَالبِتَّالِي اقتصاد الظلّ كَانَ موجوداً قبل الأزمة الاقتصادية.
كَمَا أنّ اقتصاد لبنان غير الشرعي هُوَ رابع أكبر اقتصاد فِي المنطقة العربية، وَهُوَ أكبر من المعدل العالمي وأكبر من حجم اقتصاد الظلّ فِي دول مثل تايوان وكاميرون واليمن عَلَى سبيل المثال، مَعَ الإشارة إِلَى أَنَّّ البلد صاحب أكبر حجم اقتصاد ظلّ فِي العالم هُوَ زيمبابوي حَيْتُ يصل إِلَى 60.6 فِي المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وَكَانَ حجم اقتصاد الظلّ فِي لبنان قَد تراجع بَيْنَ العام 1991 والعام 2010 من 36,7 فِي المئة من الناتج المحلي إِلَى 24,6 فِي المئة فِي العام 2010، إلّا أَنَّهُ عاود بعد ذَلِكَ استئنافَ نموّه لِيَصِلَ فِي العام 2015 إِلَى 29,2 فِي المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وِفْقًاً لآخر تقديرات صندوق النقد الدَّوْلِي.
وواصل اقتصاد الظل فِي لبنان نموَّه عبر السنوات وبات يبلغ حالياً 13 مليار دولار بِمَا يوازي حوالي 23 فِي المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
تأثير الاقتصاد غير الشرعي عَلَى لبنان
أمّا عَنْ تأثير الاقتصاد الموازي عَلَى لبنان، يجيب شماس، بِأَنَّّه “ترجم بِالدَّرَجَةِ الأُوْلَى، بموقف دول الخارج والجهات المانحة من لبنان، وتحديداً مؤسسة “غافي الدولية”، الَّتِي اعتبرت أنّ الاقتصاد الكاش يشجع أكثر فأكثر الاقتصاد غير الشرعي والأسود، المرتبط بتبييض الأموال فَهَذَا النوع من البيئة المالية يسمح بِأَنَّ يصبح كلّ شيء مباحاً”.
“وهنا يأتي الخطر من وضع لبنان عَلَى اللائحة الرمادية”، يقول شماس، “مَا سيعود بانعكاسات كبيرة عَلَى النشاط المالي والمصرفي اللبناني المتعثّر بالأساس، كَمَا سيخلق نوعاً من الحذر من قبل المصارف المراسلة بالتعامل مَعَ لبنان، كَمَا سيعيق ذَلِكَ حركة التحاويل من وإلى لبنان، (أموال المغتربين، التحويلات لأغراض الاستيراد والتصدير)”.
وَأَضَافَ شماس “يضرب الاقتصاد غير الشرعي أيضًاً، قطاعي الصناعة والتجارة، ويشجع المنافسة غير المشروعة، حَيْتُ أنّ تكاليف الاقتصاد الشرعي أصبحت مرتفعة، مَعَ زيادة الضرائب وتحسّن الأجور، وتطبيق القوانين، بَيْنَمَا الاقتصاد الأسود متفلت من جميع القوانين المالية والضريبية وقانون الضمان الاجتماعي، وَالَّذِي أَصْبَحَ عبئاً كَبِيرًاً جداً عَلَى القطاع الخاص الشرعي. وَالبِتَّالِي كلما زادت رقعة الاقتصاد غير الشرعي، خَفُتَ حجم الاقتصاد الشرعي، مَا سينعكس بطبيعة الحال عَلَى ماليّة الدولة والتقديمات الاجتماعية”.
وَإِعْتَبَرَ شماس أنّ “هُنَاكَ ترابطاً بَيْنَ الاقتصاد غير الشرعي وأزمة النزوح، الَّتِي تلعب أيضًاً دوراً رئيسياً فِي تصاعد الاقتصاد الأسود. فِيمَا الحلّ صعب جداً فِي ظلّ الوضع الحالي، من تفكك مؤسسات وانهيار اقتصادي، وعجز رسمي”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
عَنْ الموقع
يستفيد سنويا من منصتنا أكثر من 25 مليون زائر وزائرة من جميع الفئات العمرية .
تمَّ الحرص فِي zoom32.com عَلَى 4 توابت اساسية :
ـ جودة المضامين المنشورة وصحتها فِي الموقع
ـ سلاسة تصفح الموقع والتنظيم الجيد مِنْ أَجْلِ الحصول عَلَى المعلومة دون عناء البحث
ـ التحديث المستمر للمضامين المنشورة ومواكبة جديد التطورات الَّتِي تطرأ عَلَى المنظومة التربوية
ـ اضافة ميزات وخدمات تعليمية متجددة
لمدة 3 سنوات قدمنا اكثر من 50000 مقالة وازيد من 200 ألف مِلَفّ مِنْ أَجْلِ تطوير دائم لمنصتنا يتناسب وتطلعاتكم, والقادم أجمل إن شاء الله.
⇐ المنصة من برمجة وتطوير zoom32.com وصيانة DesertiGO
⇐ يمكنك متابعتنا عَلَى وسائل التواصل الاجتماعي ليصلك جديدنا: اضغط هُنَا