انقسامات المصارف ومعسكراتها ومصير الودائع

لَمْ تنتهِ حتّى هَذِهِ اللحظة مفاعيل الغداء الَّذِي جمع بعثة صندوق النقد بمجموعة من مساهمي وإداريي القطاع المصرفي، الأكثر ليونة تجاه الصندوق ومشاريع إعادة الهيكلة. مَا يميّز هَؤُلَاءِ الحمائم، كَمَا باتوا يُعرفون فِي زواريب القطاع، هُوَ قدرتهم عَلَى ضمان الحد الأدنى من كل وديعة، وفقًا لشروط خطّة الحكومة المتفق عَلَيْهَا مَعَ الصندوق، أي 100 ألف دولار أميركي. وهؤلاء الحمائم، هم الأكثر قدرة عَلَى إعادة رسملة مصارفهم، أي تأمين السيولة المطلوبة لِإِعَادَةِ تكوين الأموال الخاصّة لمصارفهم. هَؤُلَاءِ، سيتقبّلون شطب مَا تبقى من الرساميل، وهم يعلمون أنّ مصارفهم لَنْ تُصفّى خِلَالَ عمليّة إعادة الهيكلة، بحكم قدرتها عَلَى تسديد الحد الأدنى المطلوب من الودائع.

معسكر الصقور، المهيمن عَلَى قرار جمعيّة المصارف، حرّك أدواته الإعلاميّة مُنْذُ انتهاء جولة بعثة الصندوق. وبدأ بتسريب الأنباء عَنْ وجود مصارف “تتآمر” مَعَ الصندوق لشطب أموال المودعين، وكأن المصارف الَّتِي ترفض إعادة الهيكلة تملك خطتها لِإِعَادَةِ هيكلة القطاع أَوْ إعادة أموال المودعين! وسرعان مَا بدأ صقور المصارف بتحريك بعض الواجهات الَّتِي تتحرّك بِإِسْمِ المودعين، للتصويب عَلَى بعثة صندوق النقد والبرنامج التمويلي المتفق عَلَيْهِ مَعَ الصندوق. هَذَا المشهد، أعاد تصويب الأضواء عَلَى انقسامات القطاع المصرفي، وَهُوَ مَا يفرض فرز المصارف الموجودة لِفَهْمِ موقعها من هَذَا الانقسام الحاد.

معسكر الحمائم: مصارف كبيرة مهمّشة فِي الجمعيّة
كَمَا أشرنا سابقًا، بَاتَ هَذَا المعسكر أكثر تقبلًا لدور الصندوق وبرنامجه وشروطه، ولو أنّ أصحاب هَذِهِ المصارف مَا زالوا يتمسّكون ببعض العناوين غير الواقعيّة، مثل السؤال عَنْ “مسؤوليّة الدولة” فِي رد الودائع.

هدف هَذَا المعسكر، بَاتَ ببساطة تنظيف الميزانيّات من الخسائر، والاكتفاء بضمان مَا يمكن ضمانه من ودائع، مَعَ ترك مسألة الودائع الكبيرة للدولة وخططها وتفاهماتها مَعَ الصندوق. هَكَذَا، بَاتَ هَذَا المعسكر معنيًا ومهتمًا بالعودة إِلَى العمل المصرفي التقليدي، بعد إنجاز عمليّة إعادة الهيكلة، ولو تطلّب الأمر تأمين رساميل جديدة من قبل أصحاب المصارف. مصلحة هَذَا المعسكر مفهومة: هُوَ يستطيع تمويل إعادة الرسملة، ورد الودائع، وَهُوَ يعتقد أنّ بإمكانه الهيمنة عَلَى القطاع بعد إصلاح وضع المصارف.

أبرز رموز هَذَا المعسكر هُوَ بنك عودة، الَّذِي نظّم الغداء الأَخِير مَعَ صندوق النقد الدَّوْلِي. العودة إِلَى تَارِيخ هَذَا المصرف، تُذكّر بمشاكله المعتبرة فِي الملاءة والسيولة، الَّتِي طرأت فِي سنوات مَا قبل الانهيار، بفعل الخسائر الَّتِي مُني بِهَا فرع البنك فِي تركيا. يومها، اضطر المصرف للاستعانة بهندسات مصرف لبنان الماليّة، لتعويض خسائره، قبل أن يتم تعميم تجربة الهندسات عَلَى سائر المصارف اللبنانيّة.

بعد الانهيار، وقبل ثلاث سنوات، أنجز المصرف صفقة بيع فروعه وأصوله فِي مصر، لمصلحة بنك أبو ظبي الأوّل. فِي تِلْكَ المرحلة، ضخّت الصفقة أكثر من 660 مليون دولار فِي حسابات بنك عودة، حَسَبَ بعض المَعْلُومَات المتداولة، وَهُوَ مَا سمح للمصرف بالامتثال لمستوى السيولة بالدولارات الطازجة، الَّتِي طلب مصرف لبنان تأمينها. ثُمَّ صفّى البنك فِي العام نفسه فروعه فِي الأردن والعراق، ببيعها لمصلحة كابيتال بنك.

باختصار، معدلات السيولة المقبولة، الَّتِي يتمتّع بِهَا بنك عودة حاليًا، مقارنة بسائر المصارف اللبنانيّة، كَانَت مدفوعة أساسًا بقدرته عَلَى تسييل كتلة من الأصول الخارجيّة. وهذا لَا يضع المصرف طبعًا فِي الموقع “السليم” من ناحية الملاءة، غير أنّه يبقى أكثر قدرة عَلَى تأمين الحد الأدنى من الأموال المطلوبة لِضَمَانِ الودائع الصغيرة، وفق مندرجات خطّة التعافي. هَذَا مَا يجعل عودة “أقل تعثرًا”، مقارنة بالآخرين.

عَلَى النحو نفسه، يبرز بنك لبنان والمهجر -ثاني أكبر المصارف اللبنانيّة- فِي قائمة المصارف الواقعيّة، المتقبلة لشروط مسار إعادة الهيكلة. وكحال بنك عودة، استفاد بنك لبنان والمهجر من صفقة بيع فرعه فِي مصر، لصالح المؤسسة العربيّة المصرفيّة البحرينيّة، فِي الفترة الَّتِي تلت الانهيار. وبشكل عام، بدا المدير العام للمصرف سعد أزهري أكثر عقلانيّة عِنْدَ تناول مسألة إعادة الهيكلة فِي جميع المقابلات الإعلاميّة، مقارنة بالخطابات المتشنّجة الَّتِي كَانَت تطلقها سائر القيادات المصرفيّة. وتمامًا كحال بنك عودة، مَا زَالَتْ تمتلك عائلة الأزهري سلسلة معتبرة من الأصول فِي الخارج، عَلَى شكل مصارف شقيقة واستثمارات وفروع أجنبيّة، وَهُوَ مَا يمثّل ركيزة يمكن اللجوء إِلَيْهَا عِنْدَ الحاجة لِإِعَادَةِ رسملة المصرف الأم فِي لبنان.

وَفِي معسكر الحمائم أيضًا، نجد أسماء ثلاثة مصارف أُخْرَى كبيرة، وَهِيَ: بنك ميد، والبنك اللبناني الفرنسي، وبنك بيبلوس. والمشترك بَيْنَ جميع هَذِهِ المصارف الخمسة، هُوَ إمّا ملاءة المساهمين المهتمّين بالحفاظ عَلَى كياناتهم فِي لبنان، أَوْ توفّر مُسْتَوَى مقبول من السيولة مقارنة بالمصارف الأخرى.

الملفت للنظر، هُوَ أنّ أكبر ثلاثة مصارف لبنانيّة من حَيْتُ حجم الموجودات -عودة ولبنان والمهجر وبيبلوس- كَانَت تستحوذ مَعًَا قبل الانهيار عَلَى أكثر من 42% من إجمالي الموجودات المصرفيّة، وَعَلَى نسبة مماثلة من حجم الودائع. وَمَعَ ذَلِكَ، تبقى هَذِهِ المصارف محدودة القدرة عَلَى تأثير فِي قرار جمعيّة المصارف، الَّتِي يحتكم فِيهَا التصويت إِلَى مبدأ الصوت الواحد للمصرف الواحد، بمعزل عَنْ حجمه، وَهُوَ مَا يعطي المصارف الصغرى قدرة عَلَى حسم القرار دَاخِل الجمعيّة.

صقور المصارف: مصارف أصغر وصوت أعلى
فِي معسكر الصقور، تبرز الشخصيّات المصرفيّة ذات الصوت المرتفع، وذات العلاقات الأكثر “إشكاليّة” مَعَ رموز الطبقة السياسيّة فِي الداخل اللبناني.

هُنَاكَ، تبرز أسماء مثل بنك بيروت، الَّذِي يديره رَئِيس جمعيّة المصارف نفسها، سليم صفير. وغالبًا مَا ارتبط إسم صفير بالخطابات المتشنّجة ضد الخطط الحكوميّة، وضد أي مسار معقول لِإِعَادَةِ هيكلة القطاع. وَكَانَ إسم صفير قَد ارتبط مؤخّرًا بمجموعة من الشركات القبرصيّة، الَّتِي كشف عَنْهَا صحافيون فِي إِطَارِ مشروع “أسرار قبرص” الاستقصائي، حَيْتُ تبيّن أن صفير لجأ إِلَى الجزيرة الأوروبيّة لإخفاء ثروته فِي الخارج، بَيْنَمَا كَانَ مصرفه يمتنع عَنْ السداد للمودعين.

وكَذَلِكَ، فِي هَذَا المعسكر، تبرز أسماء مثل بنك سوسيتيه جنرال، بإدارة المصرفي الشهير أنطون الصحناوي، المعروف بكونه المصرفي الأكثر تدخلًا فِي الشؤون البرلمانيّة والإعلاميّة اللبنانيّة. كَمَا يبرز إسم بنك الموارد، الَّذِي يديره المصرفي مروان خير الدين، المرشّح الراسب فِي دائرة الجنوب الثَّـالِثَة، والمعروف بتورّطه فِي فضائح العمولات غير المشروعة، المشتبه باختلاسها من قبل الحاكم السابق رياض سلامة. ويبقى من المهم الإشارة إِلَى أَنَّّ خير الدين اختار الانكفاء نسبيًا بعد خضوعه للتوقيف والاستجواب فِي فرنسا فِي هَذِهِ القضيّة، فِي شهر نيسان 2023، من دُونَ أَنْ يتخلّى عَنْ دوره فِي المصرف أَوْ دور المصرف دَاخِل جمعيّة المصارف.

أخيرًا، يَضُمُّ هَذَا المعسكر كذلك كل من: بنك بيروت والبلاد العربيّة، وفرنسبنك، وفرست ناشيونال بنك، وبنك الاعتماد اللبناني. وجميع هَذِهِ المصارف، يجمعها ضعف الرساميل وشح السيولة وعدم الاستعداد لمسار إعادة الرسملة أَوْ إعادة الهيكلة، أَوْ ربما عدم استعداد أصحابها -رغم ملاءة بعضهم- لضخ رساميل جديدة فِي مصارفهم.

فِي النتيجة، بَاتَ الانقسام واضحًا اليوم أكثر مِنْ أَيِّ وقت مضى. وما يفترض أن يلتفت إِلَيْهِ أصحاب الودائع هُنَا، هُوَ أن مشروع إعادة الهيكلة يميّز بَيْنَ المصارف القابلة للاستمرار، وَالَّتِي ستغطّي الحد الأدنى من كل وديعة، وتلك الَّتِي ستتجه إِلَى التصفية، وَالَّتِي لَنْ تضمن ودائعها إِلَى أقصى حد. بِهَذَا المعنى، مصير ودائع “صقور المصارف” قَد لَا يكون مضمونًا وفق معايير إعادة الهيكلة، إلَّا إِذَا تغيّر موقف أصحاب هَذِهِ المصارف من مشروع إعادة الهيكلة. أمّا التغاضي عَنْ إعادة الهيكلة، كَمَا تطالب هَذِهِ الفئة من المصرفيين، فسيفرّط بالودائع فِي جميع المصارف من دون استثناء، خصوصًا إِذَا جرت إحالة الودائع إِلَى صندوق مربوط بالأصول والمرافق العامّة، كَمَا تطالب جمعيّة المصارف مُنْذُ العام 2020.

عَنْ الموقع

ان www.zoom32.com مِنَصَّة مُسْتَقِلَّة شاملة وحديثة تواكب كل مواضيع المالية والاقتصادية وَكَذَا اعلانات الوظائف,وَتَضَمَّنَ كذلك مجموعة من الخدمات والوسائل التعليمية الادارية الَّتِي تبسط وتشرح الأشياء الَّتِي يحتاجها الباحث عَنْ فرص الاستثمار سَوَاء كَانَت فِي ارض الواقع او عبر الانترنت ، وَتَجْدُرُ الاشارة إِلَى ان هَذِهِ المنصة لَا تمت باي صلة لِاي مؤسسة مالية.
يستفيد سنويا من منصتنا أكثر من 25 مليون زائر وزائرة من جميع الفئات العمرية .
تمَّ الحرص فِي zoom32.com عَلَى 4 توابت اساسية :
ـ جودة المضامين المنشورة وصحتها فِي الموقع
ـ سلاسة تصفح الموقع والتنظيم الجيد مِنْ أَجْلِ الحصول عَلَى المعلومة دون عناء البحث
ـ التحديث المستمر للمضامين المنشورة ومواكبة جديد التطورات الَّتِي تطرأ عَلَى المنظومة التربوية
ـ اضافة ميزات وخدمات تعليمية متجددة
لمدة 3 سنوات قدمنا اكثر من 50000 مقالة وازيد من 200 ألف مِلَفّ مِنْ أَجْلِ تطوير دائم لمنصتنا يتناسب وتطلعاتكم, والقادم أجمل إن شاء الله.
⇐ المنصة من برمجة وتطوير zoom32.com وصيانة DesertiGO
⇐ يمكنك متابعتنا عَلَى وسائل التواصل الاجتماعي ليصلك جديدنا: اضغط هُنَا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *